المجالس التشريعية في زمن الثورات العربية

نشر في جريدة المستقبل في 27 نيسان 2012.

منى سكرية

إنها الحلبة التي تلتقي فيها التيارات السياسية الأساسية وتتواجه فيها. هي “مصير الديمقراطية” كما اعتبرها المتخصص بالقانون “هانز كلسن”، فتضمن تمثيل الشعب وتضطلع بمهمتين: أولهما الدور التشريعي الذي يقضي بسنّ القوانين والتصويت عليها، والثاني مراقبة السلطة التنفيذية، ما يضمن وضع نظام الضوابط والموازين بين السلطات الأساسية.

تعود التجارب البرلمانية الأولى في العالم العربي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي الستينيات بالتحديد، أبصرت النور في مصر وتونس، والصدفة أن هذين البلدين بالتحديد شكلا رأس الحربة في حركة الاحتجاجات التي غمرت العالم العربي بعد قرن ونصف القرن.

لطالما كانت البرلمانات العربية ضعيفة ومهمشة في الغالب، فواجهت الصعوبات الكبرى في فرض نفسها في مواجهة المؤسسات الوطنية الأخرى. فهل تؤدي المعطيات الجديدة المطروحة في المنطقة منذ اندلاع الاحتجاجات، من تغيير النظام في بعض البلدان والإعلان عن تطبيق إصلاحات في بلدان أخرى، إلى تعزيز دور البرلمانات في اللعبة السياسية؟ لقد خطت بلدانٌ عدة في المنطقة خطواتها الأولى على درب الإصلاحات التي تطال السلطة التشريعية، من المغرب إلى الخليج العربي مرورًا بالمشرق. وغالبًا ما أتت هذه الإصلاحات بمبادرة من الملوك أو الرؤساء. منها ما كان أساسيًا، كانتخاب أعضاء البرلمان بالاقتراع العام (قطر) أو توسيع صلاحياته (المغرب) أو حتى نقل بعض الصلاحيات التشريعية إليه (سلطنة عمان)؛ ومنها ما كان أكثر تواضعًا كتوسيع الهيئة الانتخابية (الإمارات العربية المتحدة) أو السماح إلى المرأة بدخول البرلمان (المملكة العربية السعودية)؛ وغيرها ما كان جريئًا مع إنشاء جمعيتين تأسيسيتين في تونس ومصر (ومن المتوقع أن تُستحدث جمعية تأسيسية في ليبيا في الأشهر القادمة).

في زمن الثورات العربية التي يشُبّهها البعض بموجة الديمقراطية، لا بد من طرح الأسئلة بشأن دور هذه البرلمانات في فترة الاضطرابات والمكانة التي يمكن أن تحتلها على ضوء عملية إعادة الهيكلة السياسة التي بدأت في هذه البلدان.

على مستوى النصوص التي غالبًا ما استلهم واضعوها من الدساتير الأوروبية، تتمتع أغلب البرلمانات العربية بصلاحيات واسعة إلى حدٍ ما. فهي على الأغلب برلمانات ينتخبها المواطنون وهي التي تسنّ التشريعات أو تشارك في سنّها، وفي حوزتها آليات تمكّنها من مراقبة السلطة التنفيذية، ويتمتع أعضاؤها بحصانة برلمانية يفترض أن تضمن استقلاليتهم.

في الواقع، قلّة قليلة من البرلمانات العربية تمكّنت أو تسنّت لها الفرصة بأن تحقق قدراتها. على العكس، غالبًا ما وقعت ضحية إطار مؤسسي قولبته بعنايةٍ السلطة التنفيذية النافذة، وبالتحديد رئيس الدولة الذي يتحكم بالسلطات الأساسية.

في عددٍ من الدول العربية، غالبًا ما ترافق التحرر من الانتداب الأجنبي أو استبدال بعض الأنظمة الملكية بأنظمة رئاسية، بحلّ البرلمانات المنتخبة واستبدالها ببرلمانات أكثر انصياعًا، أي أقل شرعية. في حينها، أعلنت حالة الطوارئ، وهي بحسب تعريفها مؤقتة، لكنها استمرّت في الواقع لسنوات لا بل لعقودٍ عدّة، فأصبحت التدابير الاستثنائية والمؤقتة تدابير دائمة.

والمفارقة أن الدول العربية لجأت إلى نظام البرلمانات الثنائية الغرفة لتفادي أي انتعاش في النشاط البرلماني، لا سيما في خلال فترة التحرر النسبي في التسعينيات. باستثناء مجلس الشيوخ الأردني الذي أنشئ في العام 1946 والمجلس الاستشاري المصري الذي أنشئ في العام 1980، أنشئت كل الغرف العليا العربية بدءًا من التسعينيات. وكان الهدف غير المعلن وراء إنشائها يقضي بالحدّ من عمل مجالس النواب التي تنتخب عامةً بالاقتراع العام، وتترك هامش من المرونة إلى المعارضة. إلى جانب بعض الاستثناءات المعدودة، يعيّن رئيس الدولة أعضاء الغرف العليا أو ينتخبون عن طريق الاقتراع غير المباشر ما يعزز النخب المقرّبة من السلطة. في إطار كهذا، من الصعب أن تؤدي البرلمانات العربية أي دور في الحركة السياسية المضطربة في هذه الأشهر الأخيرة، إن كناطقة بإسم الشعب وممثلة إرادته أم كلاعب يطلق سياسات الإصلاح ليستجيب إلى تطلعات الشعب.

لكن عملية إعادة الإعمار السياسية التي أطلقت في بعض البلدان أعادت الأمل بالنظر في مكانة البرلمان ودوره في النظام السياسي الداخلي.

شكّلت الانتخابات في تونس، مهد الثورات العربية، حصيلة مرحلة انتقالية سلسة نسبيًا باتجاه نظام ديمقراطي. بالفعل، إن الجمعية التي انتُخبت حديثًا لا تتمتع بسلطات تشريعية فحسب، لكنها تضطلع بمهمة تشكيل حكومة انتقالية، وكجمعية تأسيسية، عليها أن تضع الدستور المقبل وأن تحدّد شكل النظام السياسي المستقبلي.

أما البرلمان المصري، فمن الواضح أنه لن يتمتع بصلاحيات بهذا الوضوح والاتساع. بعد الأحداث التي أدت إلى استقالة الرئيس حسني مبارك، كُلّفت لجنة يوم 15 شباط 2011 بمراجعة الدستور وتقديم سلسلة من اقتراحات الإصلاحات لتخضع لاحقًا للاستفتاء.  فالاستفتاء الدستوري الذي جرى في شهر آذار أفضى إلى التصديق على التعديلات واعتماد دستور مؤقت. نصّ الدستور على تنظيم انتخابات برلمانية في شهر أيلول 2011 – عُقدت في النهاية على ثلاثة مراحل بين تشرين الثاني 2011 وكانون الثاني 2012 – وإعداد الجمعية التأسيسية التي ينتخبها البرلمان الجديد الدستور الجديد. في خلال الصيف، ارتفعت أصوات عبّرت عن خشيتها من أن تسعى الجمعية التأسيسية التي تتشكل بعد الانتخابات ومن المرجح أن تسيطر عليها مختلف التيارات الإسلامية، إلى إرساء نظام إسلامي. بهدف الحدّ من هذه المخاوف، وبمبادرة من مكتب نائب رئيس الوزراء، جرى اعتماد نصّ يتضمن مجموعة من المبادئ الأساسية على الجمعية التأسيسية القادمة أن تحترمها عند وضع الدستور الجديد. تنصّ الوثيقة أيضًا على تخفيض عدد النواب في لجنة صياغة الدستور الموكلة تحديد توازن السلطات بين المؤسسات. فنسبة النواب في اللجنة لن تتجاوز 50%، لتضم أيضًا ممثلي النقابات وخبراء في القانون الدستوري والمؤسسات الدينية والجمعيات المهنية. نجحت الطبقة العسكرية أيضًا في فرض بندٍ يُعفي الميزانية العسكرية من أي رقابة برلمانية، ما أثار سخط القوى الإسلامية والليبرالية. فها هي آليات السيطرة على السلطة التشريعية تترسخ قبل انتخاب البرلمان الجديد حتى.

شهد المغرب أيضًا مراجعة دستورية في العام 2011 هدفت إلى إصلاح النظام السياسي والعلاقات ما بين مختلف المؤسسات في البلد، إلا أن هذه العملية لم تؤدِ إلى وضع دستور جديد. في خطاب ألقاه الملك محمد السادس نفسه في 9 آذار 2011 ردًا بالتحديد على الاحتجاجات التي هزت العالم العربي والتي كانت تلقى صدًى في المجتمع المغربي حيث تعالت الأصوات المطالبة بالاعتصام، طرح الملك هذه المراجعة، إلا أنها بعيدة كل البعد عن إرساء نظام ملكي برلماني. تحدّ هذه المراجعة من السلطات المركّزة بين يدي الملك لصالح رئيس الوزراء والبرلمان، إلا أن الملك ما زال يحتفظ بمعظم سلطاته السيادية، ويبقي قبضته على القضاء، والدبلوماسية، والجيش، والشؤون الدينية بصفته أمير المؤمنين. هذه الإصلاحات التي أرادها الملك وقرّرها أعدتها لجنة خبراء عيّنها الملك نفسه، بعيدًا عن أي استشارات برلمانية. ويبدو أنها تهدف إلى حماية النظام الملكي من انتفاضة شعبية كانت ستمتد، كما هي الحال في بلدان أخرى من العالم العربي.

باستثناء التحرّك المدني المعروف بحركة 20 فبراير، يبدو أن الإصلاحات الدستورية قد لبّت تطلّعات الشعب الذي وافق عليها بنسبة 98% في الاستفتاء الذي أجري في تموز 2011، وقاربت نسبة المشاركة فيه 75%. إذا ما شككنا بنتائج كهذه، فإن المناقشات التي دارت حول الانتخابات البرلمانية التي جرت في نهاية تشرين الثاني 2011 وقاطعتها حركة 20 فبراير وبعض المجموعات اليسارية التي تدعو إلى إرساء نظام ملكي برلماني حقيقي يحدّ من سلطات الملك المطلقة، جعلت من العملية الانتخابية مقياس لشرعية الملك. إذ قُدّرت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بحوالي 45% – ما يشير إلى زيادة بنسبة 7% مقارنةً بالانتخابات البرلمانية في العام 2007 – شكّلت الانتخابات نجاحًا، ولو متواضعًا بالنسبة إلى النظام الملكي، فأوحت أن الشعب أعاد التأكيد على ثقته بالنظام الملكي والسياسي، الذي لا يُعدّ نظامًا ملكيًا برلمانيًا على الرغم من الإصلاحات الأخيرة. والجدير بالذكر أن عبد الإله بنكيران، زعيم الحزب الإسلامي “العدالة والتنمية”، الذي كان الفائز الأكبر في الانتخابات حيث حصد 107 مقعدًا على 395 مقعد، اعتبر أن النظام الملكي البرلماني “غير ملائم في المغرب”.

باستثناء تونس، يتضح إذًا أن التغيير ينبع في الغالب من السلطات الحاكمة، الحريصة على تعزيز سلطتها من خلال التنازل عن الحد الأدنى من الصلاحيات أكثر من حرصها على تطبيق إصلاحات ديمقراطية. وعلى الرغم من التعبئة الشعبية العارمة في هذه الأشهر الأخيرة التي تطالب بتغيير على مستوى إدارة الشؤون العامة، ما زال المواطنون يواجهون الصعوبات في فرض رؤيتهم ومطالبهم على مستوى المؤسسات. ولا تُعدّ هذه الهوّة خارجة عن المألوف، فالتحول نحو الديمقراطية لا يتحقق بين ليلة وضحاها، والقدرات الداخلية لإجراء هذا التحول لم تترسخ بعد لكن المطالب تتكاثر. ينبئ هذا المشهد بحتمية المواجهة بين مختلف التيارات السياسية، وهي مواجهة قد تجنح نحو العنف إذا ما فشلت الأطراف الأساسية في حصر المواجهات السياسية في الصرح البرلماني.

قد تمتد الاضطرابات الاجتماعية التي اندلعت بشكل مذهل في العام 2011 إلى ما بعد العام 2012. فالرهان أمام الأنظمة أو الحكومات الجديدة يقضي بمواجهة هذا الاضطراب من خلال سياسات تشاركية تضمن دورًا محوريًا للبرلمان. ففي نظام ديمقراطي حقيقي، لا يمكن ضمان شرعية المؤسسات وبالتالي شرعية التدابير والسياسات التي تقررها، سوى من خلال استشارة المواطنين ودعمهم إياها بإرادة حرة.

Cliquez ici pour la version française.

 

Scroll to Top