لبنان: بين الجمود السياسي والمخاطر الامنية: الوقت لم يحن بعد للملفات الكبرى

[hr]

١ الجمود السياسي: لقد بادر رئيس الوزراء الاسبق ورئيس تيار المستقبل النائب سعدالدين رفيق الحريري الى الدعوة لحوار مع حزب الله من اجل لجم الاحتقان المذهبي في لبنان. لكن الحوار الذي قد ينطلق قبل نهاية العام، يبقى منقوصا بفعل حصره بالمكون المسلم. فهو بالتالي حوار بين الطائفتين السنية والشيعية، يسمح به اليوم تحضيرا لتسويات اشمل في المنطقة بين السعودية وإيران. هو حوار على مستوى الصف الثاني، لكسر الجليد ولتحضير القواعد قبل امكانية فتح حوار جدي على مستوى القيادات وعلى اساس اجندات استراتيجية. بانتظار ان ينتقل الحوار الى القادة والى مواضيع كبرى قد تسمح بطرحها التطورات المرتقبة على صعيد المنطقة، لا يجب ان يعول الكثير على مبادرة الحريري لكسر الجمود السياسي الحالي.
٢ الضغوطات الامنية: خصوصيات لبنان الطائفية والمذهبية تفرض عدم وضع الجيش اللبناني بمواجهة مع اي مكون اجتماعي، لكن للمؤسسة الوطنية الام هامش مقبول من الحرية تسمح لها بالمبادرة تحت مظلة مرجعيتها السياسية من اجل فرض الامن بقوة السلاح، وهذا ما حصل في طرابلس والشمال وفي مناطق اخرى. فكان الحسم على الارض لصالح الشرعية وافتضح امر المشاريع المشبوهة. في حين يعالج الجيش ومخابراته وبالتنسيق مع القوى الامنية الاخرى التوترات الامنية المتنقلة يبرز عنصر الاستباقية كأساس للعمل الامني المشترك، مما يسمح بتفادي انتشار بؤر الارهاب والتوتر الى مناطق جديدة. كما ان التعاون العسكري التقني والمخابراتي مع دول شريكة في الحرب على الارهاب قد يضفي زخما لمهام الجيش اللبناني واجهزة وزارة الداخلية. المعالجات العسكرية والمخابراتية هي ضرورية لكنها لن تكون كفيلة بتثبيت الوضع الامني نهائيا خصوصا وان الامن مرتبط عضويا بالتطورات السورية وبملفات المنطقة، كما انه مرآة للتشنجات او الانفراجات السياسية المحلية، وكذلك هو مرتبط بمعطيات اقتصادية واجتماعية ودينية. الجنوب اللبناني الواقع ضمن نطاق ال١٧٠١ ينعم بهدوء نسبي بفضل التفاهمات المحلية والاقليمية والدولية وان كانت تلك المنطقة وخصوصا منطقة شبعا بنظر بعض الافرقاء بمثابة صندوق بريد لتبادل الرسائل وجس النبض لدى الاخصام. لكن المناطق التي ينظر اليها اليوم على انها مصدر قلق من الناحية الامنية والعسكرية هي مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين والذي يستقطب العديد من الارهابيين المتشددين، والمناطق المتاخمة للجولان السوري وهي مناطق لبنانية دقيقة الحساسية من الناحية المذهبية والسياسية، ومناطق البقاع التي تتأثر مباشرة بالتطورات الميدانية في المقلب السوري ومنها عرسال ومحيطها. من الناحية الامنية ايضا، يجب الانتباه للتشدد لدى السفارات الغربية في توصياتها لرعاياها بعدم التوجه الى لبنان وللتنبه اكثر للمخاطر الامنية (وزارة الخارجية الاميركية نصحت الاميركيين بعدم التوجه الى لبنان الا للضرورة، في حين نظمت سفارة فرنسا بسرية مناورة لتنظيم اجلاء الرعايا الفرنسيين).
٣ تسليح الجيش: يتسلم الجيش اللبناني تباعا الاعتدة والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة ومن دول اخرى كالمملكة المتحدة، في حين ينتظر ان يبدأ تسليم الاسلحة والمعدات الفرنسية له مع بداية ال٢٠١٥ وبعد ان حلت العقد التقنية والمالية والسياسية التي كانت تعرقل تنفيذ البرنامج السعودي الفرنسي لصالح لبنان (٣مليارات دولار). لبنان ينتظر اسلحة نوعية جديدة من فرنسا وغيرها، ومنها ما قد يدخل الخدمة حالا ويغير بموازين القوى لصالح الجيش بمواجهة الارهاب التكفيري، ومنها ما قد يأخذ وقتا لاستلامه ولاستعماله. للجيش اللبناني خطة تجهيز طموحة بدأ العمل فعليا لإنجازها، بفضل الدعم المالي السعودي وبفضل الالتزامات الدولية تجاهه، علما ان جميع الهبات المعلنة لصالح الجيش غير مضمونة (منها الهبة الايرانية) وعلما ايضا ان وزارة الداخلية تسعى للإفادة من الهبة المكملة التي قررتها السعودية للبنان (مليار دولار) من اجل تفعيل عمل اجهزتها. على اي حال، التطورات الامنية والعسكرية الحالية والمعطيات الجيوسياسية الجديدة على صعيد لبنان والمنطقة قد تفرض البدء بالتفكير فعليا باستراتيجية وطنية شاملة للأمن والدفاع لا تكتفي بعنصرها العسكري فقط انما تمتد لتشمل عناصر امنية واقتصادية واجتماعية وديبلوماسية واعلامية الخ.، علما ان الاولويات اليوم تبقى للمعالجات الامنية العسكرية الآنية وهذا متفاهم عليه حتى الآن.
٤ العسكريون الاسرى: ان معالجة ملف الاسرى لدى المجموعات الارهابية التابعة للقاعدة (جبهة النصرة) وداعش تبدو عشوائية وغير منتجة حتى الآن، بفعل عدة عوامل داخلية لبنانية او خارجية. فالملف بالإضافة لبعده الانساني، هو ملف وطني جامع ما لبث ان تسيس الى حد الاستغلال الرخيص لمشاعر الاهالي ومن اجل ضرب هيبة الدولة ومصداقية مؤسساتها. وهذا الملف الذي يدخل من ضمن حرب لبنان على الارهاب، يبقى ملفا امنيا بامتياز وأصبح ضاغطا من الناحية السياسية والاعلامية على وحدة الحكومة الهشة اصلا. وان أكد على شيء، فهذا الملف يؤكد على عدم جهوزية الدولة لمعالجة ازمات كهذه وهي ازمات قد تتكرر، وعدم كفاءة الكثيرين من مسؤوليها لإدارة ملفات دقيقة بوجه اعداء عليهم مواجتهم لسنين طويلة.
٥ الجمود الاقتصادي: ان الجمود السياسي والتوترات الامنية يحدان كثيرا من امكانية الاستفادة من خصوصيات لبنان ومقومات قوته الاقتصادية في الظروف الضاغطة المحيطة، وهذا ما يبدو واضحا في التأخير الحاصل في استثمار ثروات لبنان الغازية والنفطية بسبب المناكفات السياسية وعدم التمكن من اخذ القرارات اللازمة في الوقت المناسب وضمن المهل المتاحة. ان تحركات الهيئات الاقتصادية والوزراء المعنيين اكان في الداخل او باتجاه الشركاء الخارجيين هي بمثابة جرعة دعم ضرورية للاقتصاد الوطني لكنها لن تكون كافية لوقف تراجع المؤشرات الاقتصادية او حتى للحد من التوجه الانحداري للأمور.
٦ الوجود السوري: ان تغليب الانتماء الطائفي والمذهبي على الانتماء الوطني والتهور في الالتزام بخيارات سياسية بمعزل عن مصلحة الوطن العليا او بعكس تلك المصلحة اوصلا لبنان الى ان يتنازل عن سيادته وان يشرع حدوده لما يقارب المليوني وافد سوري وفلسطيني من سوريا مع كل ما ينتج عن ذلك من تهديد للكيان، تهديد وجودي يخشى منه المسيحيون بفعل الديموغرافيا الضاغطة، وتهديد اجتماعي وأمني وسياسي واقتصادي. كما ان عدم كفاءة المسؤولين بإدارة هذا الملف على الصعيد الديبلوماسي والسياسي والتعمد الواضح لدى البعض لاستغلاله من اجل مكاسب سياسية طائفية ومذهبية او حتى مادية، اوقع الحكومة اللبنانية في فخ اعادة سيناريو التوطين الفلسطيني المقنع… فالأزمة السورية قد تطول لسنين عدة، كذلك تدفق الوافدين، وكذلك ايضا اللامسوؤلية في ادارة الازمة. بالإضافة الى ذلك، ان عوامل اجتماعية واقتصادية (تشابك المصالح بين الوافدين والمجتمع الحاضن لهم بفعل المغريات المالية والاقتصادية والتي يساهم بها مباشرة المجتمع الدولي في سعيه الى وقف النزوح السوري نحو اوروبا) قد تشجع الوافدين واللبنانيين على تطبيع هذا الوجود السوري الكثيف والذي اتى ليعطي الفكر البعثي كل معناه عندما يحكى عن شعب واحد في بلدين… ويبقى اخطر ما في الامر هو الموضوع الديموغرافي الذي يلغي بتطوره هذا اسس الصيغة اللبنانية المتعارف عليها، مع كل ما يعني ذلك من تهديد لديمومة الوطن بمكوناته الحالية وبدستوره الحالي.
٧ النظام السياسي: ان التطورات السياسية في الاشهر والاسابيع الاخيرة (وخصوصا تجديد النواب لنفسهم) تفرض على اللبنانيين التفكير في كيفية تطوير نظامهم السياسي من خلال درس الثغرات التي ظهرت لدى تطبيق اتفاق الطائف وامكانية معالجتها من اجل تطبيق سليم للدستور الحالي. وفي حال عدم توفر حلول دستورية للمعضلات الحالية، قد تكون تلك التطورات السلبية مناسبة لفتح ورشة اعادة تقييم شاملة لاتفاق الطائف من اجل التأكيد على الثوابت الوطنية الكبرى واولها نهائية لبنان الوطن للجميع. انما يبقى الواقع السياسي مغايرا تماما لما تقدم، بحيث ان الاصطفاف المذهبي الطائفي والشوائب الكبيرة التي تتحكم في المجتمع اللبناني وفي الحياة السياسية (من السلاح المنظم والغير المنظم الى العشائرية البدائية مرورا بالفساد المستشري) هم الضمانة لاستمرار النظام الحالي بعلله كافة… فالتمديد اللادستوري للمجلس النيابي والاعتراضات الفولكلورية عليه هم خير برهان على ذلك. لكن كل ذلك لا يمنع اللبنانيون من التفكير بالحلول الممكنة من اجل تطوير نظامهم الحالي وحلحلة عقده الدستورية الفاضحة.
٨. رئاسة الجمهورية: احدى مظاهر العقم السياسي الذي وصل اليه لبنان بفعل ظهور الثغرات الكبرى في اتفاق الطائف وعدم امكانية معالجتها منذ انتهاء عهد الوصاية السورية يكمن في الفراغ الحاصل في موقع الرئاسة. وبانتظار ان يحين وقت التغيير، لا بد ان ينتخب رئيس للبنان وان يكون قويا وتوافقيا في آن من اجل تمكينه من تعويض الانتقاص الصارخ لصلاحياته في الطائف ومن قيادة مسيرة تثبيت العمل في جميع بنود الدستور او البحث في تطويره. فالرئيس القوي يمكن ان يكون توافقيا ايضا، كما ان الرئيس التوافقي يمكن ان يكون قويا بالوقت نفسه. فلا التوافق يعني الضعف ولا القوة تعني التخاصم.
٩. التهجم على المرجعيات الروحية: توجه السهام باتجاه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من قبل مجموعتين: الاولى تسعى للتشهير به على خلفية زيارته الرعوية للأراضي المقدسة بمعية البابا فرانسوا والثانية تسعى للنيل من مصداقيته على خلفية مواقفه السياسية والتي اعتادت هذه المجموعة مقارنتها مع مواقف سلفه الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير. المجموعتان تتخاصمان في السياسة وتتوحدان في محاولة التشهير والنيل من رأس الكنيسة اللبنانية وذلك لأسباب سياسية. ان في ذلك حق وباطل: حق الانتقاد وحق المحاسبة؛ انما التعدي على المقدسات يبقى في مجتمعاتنا من المحرمات وان سقطت فتسقط معها احدى ركائز صيغتنا الوطنية.
١٠. غياب كبار من لبنان: لقد فقد لبنان في اقل من اسبوع اثنين من رموزه الكبار: صباح وسعيد عقل. وان اعتاد اللبنانيون على تقصير الدولة والجهات الرسمية تجاه كبار الوطن، فهذا لا يعني ان التطاول على رموزهم أصبح جائزا من قبل الصغار والحاقدين. صباح وسعيد عقل سفراء لبنان الجميل ولبنان الخلوق ولبنان المضياف ولبنان الثقافة والفن، سفراء لبنان الى الابدية. اما الصغار الذين لا يليق بهم لبنان صباح وسعيد عقل، فانتقدوا صباح لحبها للحياة وشهروا بسعيد عقل لتفضيله بأصعب الظروف الدفاع عن وجود لبنان، الكيان، فلن يذكرهم التاريخ ولن تأبه الاجيال القادمة بتاريخهم.
Scroll to Top