لقراءة واقعية ومجردة للثروة الغازية في منطقة شرقي المتوسط وأهميتها الاستراتيجية


نشر هذا المقال في ملحق خاص لجريدة النهار “بلد عن ضائع“.

كثرت في الآونة الأخيرة التحاليل التي تحاول تفسير التطورات في منطقة الحوض الشرقي للبحر المتوسط من زاوية الموارد الغازية باعتبارها المحرك الأساسي وراء تسارع الأحداث والهدف الرئيسي لها.

في هذه القراءة الكثير من المبالغات بحيث أنها لا تأخذ في عين الاعتبار حجم هذه الثروة الغازية المحتملة ومدى صعوبة استخراجها متى تأكد وجودها. ومن شأن هذه المعطيات أن تحدّ من أهميتها الاستراتيجية المفترضة.

بداية، لا بد من ذكر بعض الأرقام حول هذه الثروة في منطقة شرقي المتوسط لوضعها في سياق عام:

يشير تقرير جديد لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية نُشر في تموز الفائت بهدف تقييم الثروة الغازية والنفطية المحتملة في منطقة شرقي المتوسط إلى احتمال وجود ما يزيد عن 286 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي غير المكتشف بعد والقابل للاستخراج في مختلف أحواض المنطقة، ومنها حوض المشرق وحوض النيل. ويُعدّ هذه التقرير تحديثاً لتقريرين سبق أن نشرتهما الهيئة سنة 2010 (وإن شمل التقرير الجديد منطقة أوسع جغرافياً من المناطق التي شملتها التقارير السابقة). هذا وقد سُجل خلال العقد المنصرم اكتشاف حوالي 88 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي في هذه المنطقة.

هذه الأرقام، على أهميتها بالنسبة لدول المنطقة التي تتشارك أجزاء من هذه الثروة، تبقى متواضعة على مستوى العالم وبعيدة جداً عن احتياطيات كبار المنتجين كروسيا (التي تمتلك حسب التقرير الإحصائي الأخير الصادر عن شركة “بي بي” أكثر من 1320 تريليون قدم مكعب من الاحتياطي المؤكد –وليس المحتمل كما هو حال الثروة الغازية في منطقة شرقي المتوسط المشار إليها في تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية) وإيران (أكثر من 1133 تريليون قدم مكعب من الاحتياطي المؤكد حسب التقرير نفسه) وقطر (أكثر من 871 تريليون قدم مكعب من الاحتياطي المؤكد). بل أن مجمل هذه الثروة الغازية المفترضة شرقي المتوسط، على افتراض تأكيد وجودها الذي لم يثبت في الكامل بعد، بالكاد تتخطى 4% من الاحتياطي العالمي المؤكد. ما تم اكتشافه وتأكد وجوده في عدد من دول شرقي المتوسط خلال العقد المنصرم وحتى يومنا هذا، أي حوالي 88 تريليون قدم مكعب، يشكل حوالي 1.3% من الاحتياطي العالمي المؤكد، لمصر الحصة الأكبر منها.

إذاً، هذا هو حجم “الثروة الهائلة” التي غالباَ ما يُحكى عنها ويشار إليها كثروة من شأنها تغيير مجريات الأمور ويُقال إنها محط أنظار الدول الكبرى والسبب الفعلي لاهتمامها بالمنطقة.

هذه الأرقام ليست متواضعة فحسب، بل أن وجود معظم هذه الثروة الغازية في مياه عميقة يجعل من استخراجها عملية معقدة تقنياً وباهظة الثمن مما يحدّ من قدرتها التنافسية. وهنا تكمن أبرز الصعوبات التي تواجه استغلال الثروات الغازية في منطقة شرقي المتوسط: ضعف قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية مقارنتاً بمصادر الغاز الأخرى. فمعدل سعر الغاز المنتج من الحقول الكامنة في المياه العميقة عند رأس البئر في منطقة شرقي المتوسط، أي قبل نقله إلى المستهلك وإضافة التكاليف وهامش الربح، يتخطى 4 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (مع بعض الاستثناءات كحقل ظهر المصري لأسباب يصعب استنساخها خارج مصر).

أضف إلى ذلك ندرة أو حتى غياب البنى التحتية (خارج مصر) لنقل الغاز من أنابيب أو منشآت تسييل الغاز لاستغلال وتصدير هذه الموارد (علماً أن تصدير جزء منها ضروري ليصبح المشروع مربحاً نظراً لحجم الأسواق المحلية المتواضعة في هذه المنطقة باستثناء السوق المصري) وهي بدورها – أي مشاريع البنى التحتية – مكلفة جداً ومن شأنها ان تزيد من ارتفاع سعر الغاز.

هذه العوامل وغيرها (كالتعقيدات التنظيمية في الداخل والجيوسياسية في الخارج) تفسّر التحديات التي تواجهها الشركات في مسعاها لتطوير الحقول الغازية المكتشفة وينتج عن ذلك إطالة الفترة التي تفصل بين تاريخ اكتشاف المكمن وتاريخ بدء الإنتاج. فعلى سبيل المثال، بدأ إنتاج الغاز من حقل لفايثان الإسرائيلي الضخم في آخر أيام 2019، أي بعد 9 سنوات من اكتشافه في كانون الأول 2010. أما في قبرص، وبعد 10 سنوات على اكتشاف حقل أفروديت، إضافة إلى اكتشاف حقلين آخرين عامي 2018 و2019، فلم تبدأ بعد أي عملية لاستغلال هذه الثروة، بل أن السلطات القبرصية تنكب حالياً على وضع اللمسات الأخيرة لاستيراد الغاز المسال وإعادة تغويزه لإنتاج الكهرباء. وحتى مصر، التي تتميز عن دول الجوار بغياب الحاجة حالياً للاستثمار في منشئات لنقل وتصدير الغاز الطبيعي كونها تمتلك ببنية تحتية متطورة، غالباً ما تحجم عن تصدير الغاز المسال لضعف قدرته التنافسية في الأسواق العالمية. لن أتحدث عن تجميد التصدير خلال عدة أشهر في 2020 لأنها سنة غير اعتيادية نظراً لتداعيات جائحة كورونا، ولكن لا يجب أن ننسى أن الصادرات المصرية كانت قد انخفضت بشكل حاد قبل ذلك، بين آب وتشرين الأول 2019، بسبب تدني أسعار الغاز في الأسواق العالمية وضعف قدرة الغاز المصري على منافسة مصادر أخرى من الغاز خلال هذه الفترة.

إذاً، هذه هي أبرز خصائص الثروة الغازية الكامنة في المياه العميقة في منطقة شرقي المتوسط. ولهذه الأسباب تبدو التحاليل التي تضخم من أهميتها الاستراتيجية منفصلة عن الواقع.

هذه المعطيات لا تنفي أهمية هذه الموارد الغازية وخاصة بالنسبة لدول المنطقة التي تستورد أو كانت حتى الأمس القريب تستورد معظم حاجاتها من الطاقة، إنما تضعها بإطار يتيح لنا تقدير مكامن الضعف، كمكامن القوة، لهذه الثروة.

كذلك، لا تعني هذه المعطيات أن غاز شرقي المتوسط لا يمكنه منافسة مصادر الغاز الأخرى بتاتاً، فجزء منه يُصدّر حالياً ومنذ سنوات طويلة خاصة عندما ترتفع أسعار الغاز في الأسواق العالمية.

ولكن هذه المعطيات تقودنا للاستنتاج أنه إذا أردنا تصدير هذه الموارد على نطاق أوسع خارج سوقها الأولي المتمثل بدول المنطقة إلى الأسواق العالمية، وخاصة الأسيوية (حيث سعر الغاز أعلى عموماً من سعره في الأسواق الأخرى ومنها الأوروبية التي تتمتع بوفرة التمديدات الأقل سعراً من غاز شرقي المتوسط)، فيجب العمل لخفض تكاليف الاستخراج التي تقوّض القدرة التنافسية لهذه الموارد.

فبحسب دراسة أعدتها شركة GaffneyCline الاستشارية للبنك الدولي، يجب أن يتراوح سعر الغاز عند رأس البئر في منطقة شرقي المتوسط بين 1.50 و3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية ليصل عند المستهلك بأسعار تنافسية. ويُعتبر هذا الهدف طموح إذا ما نظرنا إلى الأسعار الحالية عند رأس البئر في معظم حقول الغاز في المياه العميقة في هذه المنطقة. ويتطلب تحقيقه جهداً كبيراً من قبل الحكومات في المنطقة ومن قبل الشركات. على سبيل المثال، يجب الاستفادة من البنية التحتية الحالية في مصر طالما ذلك ممكناً بهدف تقويض الحاجة إلى استثمارات في مشاريع جديدة تتطلب رؤوس أموال ضخمة، إضافة إلى السعي لدمج بعض جوانب عمليات تطوير مختلف آبار الغاز حين تسمح المعطيات بذلك بهدف خفض التكاليف. تلك الأمور ليست سهلة التطبيق على أرض الواقع، وتتطلب جهداً عظيماً من قبل الحكومات في المنطقة ومن قبل الشركات لتتحقق، ولكنها ليست مستحيلة.

نظراً لهذه التحديات التي تواجه الاستفادة من هذه الثروة الغازية، ما الذي يفسر إذاً تزايد اهتمام القوى الإقليمية وبعض الدول الكبرى في المنطقة؟ لقد ساهمت هذه الثروة في تضاعف عمليات الاستكشاف والتنقيب في الحوض الشرقي لبحر الأبيض المتوسط غالباً في ظل غياب اتفاقيات ثنائية لترسيم الحدود البحرية بسبب الاختلافات الحادة حول كيفية ترسيم الحدود البحرية. فتركيا مثلاً تعتبر أن قدرة الجزر على التمتع بمناطق بحرية، كالمنطقة الاقتصادية الخالصة (حيث تتمتع الدولة بحقوق سيادية ومنها استغلال الثروات الطبيعية)، يجب أن تكون محدودة مقارنة بالدول ذات الواجهة الساحلية الأطول، بالرغم من عدم تطابق هذا الموقف كلياً مع قانون البحار. لذلك يزعم الأتراك أن قسماً كبيراً من المساحة البحرية غربي جزيرة قبرص والذي تعتبره نيقوسيا تابعاً لمنطقتها الاقتصادية الخالصة، يشكل جزء من الجرف القاري التركي، وكذلك مساحات أخرى حول الجزر اليونانية والتي تعتبرها أثينا ضمن مناطقها البحرية.

في السنوات الماضية، ضاعفت تركيا من عمليات المسح والتنقيب عن النفط والغاز في هذه المناطق بالإضافة إلى مناطق أخرى تعتبرها ضمن المياه التابعة لجمهورية شمال قبرص التركية غير المعترف بها سوى من أنقرة، والواقعة فعلياً ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة المعلنة من قبل قبرص. والسبب الرئيسي ليس السعي وراء الموارد – فهي لم توقف العمليات بالرغم من مراكمة النتائج المخيبة – إنما تثبيت ما تعتبره حقوقها السيادية، وحقوق قبرص الشمالية حليفتها، في هذه المساحات البحرية.

وبما أن قبرص واليونان عضوتين في الإتحاد الأوروبي، لم تعد هذه النزاعات الحدودية والسيادية نزاعات بين تركيا وقبرص وتركيا واليونان فحسب، إنما نزاعات تخصّ أيضاً الإتحاد الأوروبي ما يفسّر التنسيق الدائم والتدريبات المتكررة التي تقوم بها بعض الدول الأوروبية كفرنسا وإيطاليا مع القوات البحرية القبرصية واليونانية. ويفاقم توسع التدخلات التركية في بعض مناطق الحوض الشرقي للمتوسط كسوريا وليبيا وغيرها من خشية اتساع مناطق النفوذ التركي مما حتّم تدخل الجهات التي تنظر إلى هذه التطورات بعين الريبة بهدف احتوائه.

إذا نحن أمام صراعات تتعلق قبل كل شيء بالحدود والنفوذ والحقوق السيادية التي غالبا ما يُعدّ انتهاكها من الأسباب التي من الممكن أن تؤدي إلى تأهب عسكري ومواجهات أو احتكاكات على الأرض. وقد شاهدنا في صيف 2020 اصطداماً بين سفينة حربية تركية وأخرى يونانية على خلفية قيام تركيا بأعمال المسح في منطقة تعتبرها كل من تركيا واليونان انها خاضعة لولايتها.

كل ذلك لا ينفي أهمية الموارد الغازية في شرقي المتوسط وخاصة بالنسبة لدول المنطقة، إنما يجب عدم مبالغة أهميتها واعتبارها كفيلة بتغيير مجريات الأمور على المستوى العالمي للأسباب المبينة أعلاه. ولا بدّ هنا من لفت النظر حول مدى جدية الحلول البديلة المقترحة، بالأخص في لبنان، لتسهيل عملية استغلال الموارد الغازية. فهذه الحلول يجب أيضاً أن تخضع لدراسات الجدوى لتبيان مدى فعاليتها. فعندما نتحدث عن التوجه شرقًا في هذا المجال أيضًا، ان كان لتزويد أسواق هذا “الشرق القريب” بالموارد الغازية أو لتسييلها وإعادة تصديرها الى الأسواق الآسيوية حيث الأسعار المغرية، يجب السؤال: في اي سوق في هذا “الشرق القريب” يمكن لغاز شرقي المتوسط ان ينافس مصادر الغاز الاخرى؟ وهل توجد في هذه الدول قدرة تسييلية لإعادة تصدير الغاز الى الأسواق الأسيوية؟

على ضوء كل ذلك تبرز أهمية إعادة النظر في قراءتنا للمجريات بعد ما درج في الآونة الأخيرة تفسير التطورات في منطقة الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ومن ضمنها لبنان، من زاوية الموارد الغازية وإهمال العوامل الأخرى التي تؤثر على هذه المجريات. وهي قراءة يطغى عليها الطابع السياسي مع تجاهل شبه كلّي لخصائص الثروة الغازية الكامنة في المياه العميقة في منطقة شرقي المتوسط. إعادة النظر هذه يجب أن تبدأ بدراية المزايا والخصائص الفعلية لهذه الثروة الغازية -وهي ثروة واعدة بالفعل- وكذلك التحديات التي تواجهها، والابتعاد عن قراءات تلبسها أهمية مفترضة بناء على معطيات بعيدة عن أرض الواقع وتقود حتماً إلى استنتاجات مغلوطة.

Scroll to Top