بعد أن كانت إسرائيل لفترةٍ طويلة من البلدان المستوردة لمصادر الطاقة، تمكنت إثر سلسلة من الاكتشافات المتواضعة في العقد الأول من الألفية الجديدة من خفض اعتمادها الإجمالي على واردات الطاقة إلى حدٍ ما. لكن لما كان بإمكان إسرائيل أن تطمح إلى شيء من الاكتفاء الذاتي في مجال الغاز لولا اكتشاف حقل غاز تمار في العام 2009. وقُدّر هذا الاكتشاف في البداية بحوالي 254 مليار متر مكعب (قبل أن تشير آخر التقديرات في العام 2013 إلى أن الحقل هذا يحوي حوالي 280 مليار متر مكعب)، ما يخوّل إسرائيل تلبية حاجات سوقها الداخلي للسنوات العشرين المقبلة. وفي السنة التي تلت، انقلب مشهد الطاقة كلياً بعد اكتشاف حقل واسع قبالة شواطئ حيفا، أعطي اسم ليفياثان. تشير التقديرات، التي جرى رفعها أيضاً في العام 2013، إلى أن الحقل هذا يحوي حوالي 530 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، أي ضعف الاحتياطي الموجود في حقل تمار، ما يسمح لإسرائيل بأن ترتقي إلى مصاف البلدان المصدّرة للغاز بعد سنوات قليلة، مع ما يترتب عن ذلك من تبعات جيوسياسية مرتقبة.
على المستوى المحلي، جاءت هذه الاكتشافات، في ذلك الوقت بالتحديد، كنعمة بالنسبة إلى الإسرائيليين. ففي نيسان/أبريل 2012، علّقت مصر إمداداتها بالغاز للدولة العبرية، بعد أن كانت مورّدها الأساسي إذ كانت تلبّي 40% من طلب السوق الإسرائيلي، وذلك بعد سلسلة من الهجمات على خط أنابيب العريش ـ عسقلان، وهو يتفرع من خط الغاز العربي. وبدأ استثمار حقل تمار بعد عام واحد من توقف الإمدادات المصرية، فسمح إلى إسرائيل بالتحرّر من اعتمادها على مصر وأنعش الاقتصاد الإسرائيلي: فحقل تمار وحده من المفترض أن يساهم بدفع النمو بمقدار نقطة ونصف النقطة في العام 2014، ويمكّن إسرائيل من الحدّ من وارداتها في مجال الطاقة، التي كانت تبلغ 13 مليار دولار أميركي في العام 2011 (ما يعادل 5% من إجمالي ناتجها المحلي).
على المستوى الخارجي، وبعد تخصيص 40% من احتياطي الغاز الإسرائيلي للتصدير، يبقى تحديد البلدان التي سوف تستورد هذا الغاز الإسرائيلي وكيفية تصديره. فعلى أصحاب حقوق استثمار حقول الغاز، وليس الدولة، تحديد خطة تطوير الحقول واستراتيجية تسويق الغاز، بما في ذلك تصديره إلى الأسواق الدولية، طبعاً مع احترام الخطوط العريضة للسياسة الخارجية للدولة العبرية. وأمام الإسرائيليين خيارات عدّة:
1) بناء خط أنابيب يربط حقل ليفياثان بتركيا، ويمكّن من نقل الغاز إلى السوقين التركي والأوروبي. يلقى هذا المشروع الذي تقدّر قيمته ما بين مليارين و3 مليار دولار أميركي، استحسان شركة “نوبل إنرجي” الأميركية وشركة “ديليك” الإسرائيلية، وهما صاحبتا حقوق استثمار حقلَي تمار وليفياثان الأبرز، إلى جانب عدد من الشركات التركية التي ترغب في استيراد الغاز الإسرائيلي وتوزيعه على المستهلكين الأتراك. ومن المفترض أن يكون توتّر العلاقات بين تل أبيب وأنقرة إثر حادثة أسطول الحرية في العام 2010 قد خمد بعد أن قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو اعتذارًا إلى تركيا وبعد أن أقرت تل أبيب بوجوب دفع التعويضات لعائلات الضحايا. لكن من المفترض أن يمرّ خط الأنابيب هذا عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية. نظريًا، ووفقًا للمادة 58 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تتمتع البلدان الثالثة بحرية إقامة كابلات وأنابيب تحت المياه. لكن في الحقيقة، من شأن تنفيذ هذا المشروع في غياب الضوء الأخضر من الحكومة القبرصية أن يكون مستحيلاً.
2) تسييل الغاز، وهو خيار يتيح مرونة أكبر ويفتح أبواب أسواق بعيدة أمام الغاز الإسرائيلي، ومنها الأسواق الآسيوية. يمكن تسييل الغاز: (أ) في إسرائيل (ترتفع أصوات كثيرة من المجتمع المدني الإسرائيلي تعارض هذا الخيار، وقد يكون هذا الخيار عرضة لأعمال التخريب)؛ أو (ب) في قبرص (لكن تشييد مصنع لتسييل الغاز في منطقة فاسيليكوس موضع شك بعد أن جاءت نتائج التنقيب في البلوك 12 القبرصي مخيبة للآمال، إذ لا تبرر كمية الغاز المكتشفة بناء المصنع هذا، إلا في حال ضمان مشاركة إسرائيلية في هذا المشروع)؛ و(ج) قبالة الشواطئ الإسرائيلية، من خلال إقامة منصّة عائمة لتسييل الغاز (Floating LNG). ولا بد من ذكر الخيار الرابع، وإن كان يبدو حالياً صعباً من الناحية السياسية: وهو نقل الغاز نحو مصر التي تضم مصنعين لتسييل الغاز لا تستغل قدرتهما استغلالاً كافيًا.
3) نقل الغاز نحو البلدان المجاورة عبر خطوط أنابيب (أي الأردن أو مصر أو الأراضي الفلسطينية أو حتى قبرص التي عليها أن تتريث لبضع سنوات قبل استثمار غازها الطبيعي)، وهو خيار قيد الدراسة. ونظرًا لسهولة مشاريع كخذه من الناحية الفنية، يُعتقد أن إمدادات الغاز الإسرائيلي الأولى ستوجّه في البداية إلى أحد البلدان المجاورة.
لكن اسرائيل ستختار في النهاية تنويع وسائل تصدير غازها الطبيعي، لدواعٍ أمنية وللمحافظة على هامش من الاستقلالية، وهذا ما يفسر تفادي تل أبيب حتى الساعة الاختيار بين قبرص وتركيا. فبالنسبة للإسرائيليين، التعاون مع الطرفين يشكل الحل الأمثل. ولربما يأتي خبر معاودة المفاوضات بين القبارصة اليونانيين والأتراك في هذا الصدد.